أيهما العراقي : ناسج منديل المحبة ..أو المبشـّر بالأكفان ؟

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
17/08/2007 06:00 AM
GMT



الى روح أمي . . .

مساء أمس ، كنت على موعد مسبق مع بضعة أصدقاء لتناول رغيف من محبة وعتاب .. وقد عزَّ عليَّ عدم الذهاب خشية من سوء ظن .. فتحاملت على نفسي وذهبت حاملا جبلا من صخور الوجع ، وصحارى شاسعة من حزن ٍ خرافيٍّ لا قدرة لكهولتي على حمله ..

كان الليل صافي الظلمة كضفائر عروس زنجية .. لكن مطرا ثقيلا ، كما لو أنه ممزوج برمل خشن كان يهطل بغزارة من سماء أخرى ، سبب لي غشاوة في الرؤيا ، أربكني وأنا أقود سيارتي ، وحمل سائق سيارة على تنبيهي بصوت المنبّه ، قبل أن يمد لي من نافذة سيارته بإصبعه الأوسط في إشارة منه إلى شتيمة مقرفة ..

ركنت بسيارتي في شارع فرعي ، ثم أطلقت العنان لصدري في نزف حشرجاته عبر شهقات متواصلة من النحيب ... حتى إذا نفضت سماء الأحداق ما فيها من مطر ، وخفتت بروق الصدر ورعوده ، قدت سيارتي من جديد ، ومن ثم ، وجدتني أعرِّج على محطة بترول لأغسل وجهي على أمل إزالة أي أثر لدموع الرجولة .. فأنا ذاهب لتناول رغيف محبة وعتاب ، ولا حق لي في تحويل الجلسة التي أردناها عرسا سومريا ، إلى مأتم عَلـَويّ...

افتعلت الابتسام .. وضحكت على رغم قوس النار الذي يلتف حولي وأفاعي الحزن التي تمص دمي ، لم أكن أعرف من قبل حجم الألم حين أحبس النحيب بين الاضلاع ، وأسجن الدموع تحت الأجفان .. لم أكن أعرف حجم هذا الألم إلآ حين غادرتهم لأجدني أنشج بعويل هستيري مثل طفل يتيم لا يملك غير دمية واحدة أثيرة وعزيزة لديه إختطفها منه فتى مارق بعد أن مزّق ثوبه الوحيد وركله على بطنه ثم ولـّى هاربا ...

كنا سبعة أصدقاء .. لم أشأ إخبارهم أنني جئت مرغما ، لأنه يتوجب عليَّ البحث في كيفية إقامة مجلس الفاتحة على روح أمي .. أمي التي أشقيتها كثيرا منذ أول اجتماع عقده طالبان من طلاب ثانوية السماوة في حجرة سطح الدار ، لنسخ منشور سري أصدره اتحاد الطلبة ...

أمي الطيبة التي أشقيتها كثيرا " رغما عني " ـ هي ذاتها المرأة المسكينة التي صدَّقت ما قاله لها مسؤولي " خليل كريم جبر " إن تلك الأوراق الخفيفة مثل قشور البصل ، هي

أدعية مباركة إذا حملها الطالب سينجح في الإمتحان .. فما كان منها إلآ أن تخيط له " حِرْزا " ـ ولم تكن تعلم أن تلك المناشير التي أخفاها " خليل كريم جبر " داخل الحرز ، لم تنفع ابنها البـِكر في اجتياز امتحان الرياضيات ، لينال درجة أقلّ من العشرين بالمئة ـ وهو الذي كان قبل خياطتها للحرز ، لا تقل درجته عن الأربعين بالمئة طيلة شهور دراسته في الصف الرابع الثانوي ـ باستثناء مرة واحدة حصل فيها على درجة أهّلته ليكون معدله النهائي تسعة وأربعين ، فنجح في درس الرياضيات بقرار مدرسي ..

الان يتذكر ابنها البـِكر الذي أشقاها كثيرا ـ رغما عنه ـ كيف أنه حاول تعليمها القراءة والكتابة ، فما كانت محاولاته تلك غير طبخ حصى .. كانت تشـبّه حرف " الألف " بمحراث التنور .. وحرف " الباء " بالزورق .. والنون بـ " الهلال أبو نجمة " .. لكنها والحق يقال ، تعلمت من أبي قراءة الأرقام من 1 ـ 10وأصبحت تجيد استخدام الهاتف دون الحاجة الى مساعدة من جارتها " الحاجة عطية " كما كانت تفعل قبل أن يبذل أبي جهدا خرافيا لتعليمها قراءة أرقام الهاتف .

خرجت من دار صديقي د . حمودي الدايني ، دون أن أخبره وبقية الأصدقاء أن شرودي وأنا بينهم ، كان بسبب انشغالي في كيفية التحضير لإقامة مجلس الفاتحة على روح أمي الطيبة .. تلك التي كانت تسكن مع شقيقتي في حي اليرموك في بغداد ، غير أن طائفيين منحوا العائلة ثلاثة أيام لمغادرة الحيّ وإلآ سيتم قتل الجميع ، فما كان من شقيقتي إلآ أن تترك بيتها ، فتتجه بعائلتها الى دمشق ـ وهي التي خطفوا ابنها قبل عامين ولم يطلقوا سراحه إلآ بعد دفع الفدية ... خطفوه في نفس الفترة التي سقط فيها زوجها العميد المتقاعد " حمزة الربيعي " برصاصة من رشقة رشاشة جندي أمريكي قتلت ثلاثة عراقيين على مقربة من ضريح الامام موسى الكاظم .. ثلاثة من بينهم صاحب عربة يبيع البيض المسلوق والصمون ـ على ما أخبر به عائلته شهود عيان ( والحق يقال ، فقد أبدت الجهة الامريكية أسفها وطلبت من العائلة مراجعتها لاستلام بضع مئات من الدولارات كتعويض ، لكن احدا من العائلة لم يذهب لاستلام هدية المحرر الامريكي ) .. العائلة المنكوبة دفعت الفدية : دولارات وقلادة ذهبية وكيس قمامة محشوا بالدنانير العراقية ـ أما أمي فقد حالت أمراضها دون السفر البعيد ، فلجأت الى بيت شقيقتي الأخرى في المسيب ، ومن ثم توفاها الله يوم أمس في مستشفى الحلة دون أن تبصر إبنها البكر الذي أشقاها كثيرا رغما عنه منذ قرأ أول منشور سريّ ، مرورا بما لاقاه من نظام البطل الذي اكتشف أن الإختباء في حفرة جرذان ، هو ضرب متقدم من ضروب الجهاد .. وانتهاء بنحو عقدين من الغربة .. الغربة التي لا يبدو أنها ستنتهي ، ما دام أن الوطن أضحى مسلخا بشريا ، ومكبَّ نفايات يرمي فيه الظلاميون أجسادهم المفخخة القذرة وهم يغذون السير نحو جهنم خالدين بنارها ..

لم يسبق لي أن أقمت مجلس عزاء في مغتربي .. ولم أشأ إخبار أصدقائي بفاجعتي ، ليقيني أن لهم من الفجائع ما أنضبت دموعهم ... أما وقد عرف صديق واحد ، فقد عمَّ الحزن قلوب العشيرة العراقية في أديلايد ، وإذا بهم يتسابقون لأبداء المواساة ، وتجهيز مستلزمات مجلس الفاتحة ـ بما فيهم نفرٌ من رفاق غربة ٍانقطع بيننا حبل الكلام من سنين وآخرين لم يسبق لي أن التقيتهم ـ مسيحيين ومسلمين ، عربا وأكرادا ، شيعة وسنة ... فأية طيبة تسكن القلب العراقي ؟

لم أخبر غير صديق واحد على مبعدة دقائق من بيتي ... فكيف عرف أحبة في المدن النائية وفي قارات أخرى ، راحوا ينسجون لي بحرير مشاعرهم مناديل مواساة ولا أبهى وأرقّ ؟

هل عراقيو المغتربات يختلفون عن عراقيي الداخل ؟

لا قطعا ... فجميعهم رضعوا من ثديَي دجلة والفرات ، وجميعهم تكحلت أحداقهم بغبار الوطن ... العراقي عكـّاز أخيه ومنديل جرحه ورواق خيمته .. عراقيتهم أكبر من الطائفة والحزب والمذهب .. فمَنْ هم إذن أولئك الدمويون من حملة السواطير والأحزمة الناسفة وباعثو رسائل التهديد الى العوائل الآمنة ؟ أشك أن يكونوا ممن رضعوا من ثديَي دجلة والفرات ... فمثل هؤلاء لابد وأن يكونوا قد رضعوا القيح من أثداء أمهاتهم وتكحلت أحداقهم بالدخان وديناميت الحقد الأعمى ...

لا يمكن أن يكون أناسٌ مثل علاء مهدي وسيد كاظم الموسوي وسيد شلال وطارق الحارس وحسن ناظم مثلا ، قد رضعوا من ذات الثدي الذي رضع منه المنتفخون حقدا طائفيا مثل حارث الضاري وعدنان الدليمي وظافر العاني ومشعان الجبوري .. فعراقية العراقي أكبر من الطائفة والمذهب والقومية والحزب ...

موت أمي في مستشفى ، قد أحزن عشيرة كاملة من كل الذين عرفوا بفاجعتي ... فسال من عيون بعضهم ماء دجلة والفرات ... ها هو سيد كاظم وطارق الحارس وسيد شلال وآخرون يسابقونني لتهيئة مستلزمات مجلس الفاتحة ... وها هو عدنان الدليمي وآخرون مثله يسيل قيح الحقد الطائفي من عيونهم وحناجرهم مع أنهم يرون كل يوم مئات الامهات الطيبات مثل أمي مضرجات بالدم ، وأطفالا متناثري الأشلاء ، وكسبة فقراء مذبوحين فلا يرف لهم جفن .... فأي منهم العراقيون قلبا وضميرا وشعورا ؟

إنشغالي بتهيئة مستلزمات مجلس الفاتحة ، يحملني على عدم انتظار الجواب عن سؤالي : من هو العراقي ؟ الذي ينسج منديل مواساة لأخيه العراقي ـ أو الذي يبشر ويهدد بالمزيد من الأكفان والتوابيت ؟

من هو العراقي ؟

المتحزم بحبل العراق .. أو المتحزم بالدينامت ؟